1ـ مولده ونشأته.
عبد القادر تاج الدين بن الطيب بن الجيلالي ينتهي نسبه الشريف إلى الحسين رضي الله عنه بن علي كرم الله وجهه. نشأ في أسرة عريقة ملتزمة بالدين السمح المعتدل والسيرة النبوية متشبعة بالقيم متمسكة بالفكر النير الحي المتقد، عاش دون الكفاف، تعلم من الفقر الصبر والإصرار والاصطبار ، والاعتكاف على العلم، فقد رأى أنه مسلك العارفين إلى الله ، وبالعلم يحفظ الله الدين والوطن ويُعلي كلمة الحق، وقد كانت من وصايا أبيه له رحمة الله عليهم جميعاً، فالبرّغم من شظف العيش وقلة الزاد وكثرة البرد والحل والترحال ، وعمل أقرانه حينها في الرعي والحرث أبى رحمة الله عليه إلا أن يغرف من معين العلم ، وينهل من الحكمة ، فاعتكف على كبار الشيوخ وجالس الصلحاء والحكماء، فترعرع في جنابهم فاشتهر بملاحة الوجه وفصاحة القول وقوة السبك وجمال العبارة، ذا حَظوة عندهم مكينٌ أمين. رحمة الله عليه كان ريحانة المجالس وأنسها وسمرها، يُقدس العلم والوطن وجمع شتات المسلمين وكلمتهم وقلوبهم، متواضعاً تنخفض أرضه دون سماءِه.
2ـ تعلمه وتكوينه.
تلقى تعليمه الأول على يد أبيه الحاج الطيب رحمة الله عليهما فنهل من المتون وحفظ من السور وتعلم من الآداب التي تصنع الرجال، أداب الجلوس عند العلماء ، أداب الاعتكاف ، أداب السؤال ، أداب التعامل ، وآداب التعلم ، حتى وفاة والده رحمة الله عليه وقد كان باراّ بأبيه محافظ لعهده ملتزماّ بوصاياه مكملاّ طريقه في العلم ، وجالس بعدها الإمام القطب الحاج محمد التواتي صالحي رحمة الله عليهما ، فكان ملتزماً لدروسه ، محافظاً على الصلاة معه ، محتكاً به ، لا يسمع شاردة ولا وارده إلى تلقفها بقرطاسه ومداده، فلمح فيه فراسة وذكاء ، وأخلاقا ونُبلا وشهامةً ورجولة، فعلم أنه علامة الصالحين التي يصطفي الله بها عباده ، فكان يسأل الله له أن يكون من الذين يصلح بهم الناس. حفظ القرءان والفقه والحديث وحفظ النحو وألفية ابن مالك وشروحها، كان متصوفاّ ورعاّ لله، قادريا مريدا، نقي السريرة فعرف أن الكفاح من أجل الرسالة النبوية في تلك الحقبة الاستعمارية المظلمة طريق من الشوك ولا بد من الجراحات حتى يفتح الله تلك الطريق.
عمل إماماّ فأم الناس في جامع النور فكان الإمام الواعظ والمعلم المدرس والخطيب الناصح، فتخرج على يده العشرات من الأئمة فعّلموا الناس الهديَّ السمح والطريق القويم ، تلك هي الرسالة المحمدية، فكان قاضياّ بين الناس فيما علق بينهم مستنداً على كتاب الله وهدي نبيه صلى الله عليه ، فكان ذا وجاهة عند الناس شهدوا بها له من استقامة وفكر وايمان وتعلم ، فكانت كلمته كلمة الحق، بالبرهان من كتاب الله وسنة رسوله ، حقيق على أن لا يلفظ إلا بالحق، والقول المتين، يجمع الشتات واتحاد المسلمين ، حتى صار من أعيان المنطقة وسادتهم وأهل الله وخاصته ، يُفتتح بهم المجالس ويُتعطر بكلماتهم ويُتأسى بطريقهم، يعرفون الله في المنابر والمحافل يخالطون الناس في المأكل والمشرب، وما يزال فقيراً يقتات من غالب قوت المنطقة، لا يتفضل عليهم في ملبسٍ ولا مأكل، يتصدق ويجود ويتواصى بالخير ومَد اليد، حتى يكونوا خير الأمة التي يحبها الله، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر .
3ـ كفاحه الفكري وملتقياته.
جاء نداء الجهاد بعد أن انتشر ظلم المستبد الفرنسي، فكان من المساهمين فيه بفكره حيث نادى في الناس خطيباً حي على الفلاح، حي على الجهاد، جهاد القلم والفكر وجهاد المال والنفس، فالتحق بمنظمة جبهة التحرير (FLN) من سنة 1956 إلى الاستقلال ودعمهم بتوعية الرجال وشحذ الهمم والمال والرجال والخطط، كان يعلم أن حب الوطن من حب الله، وأن سبيل الدعوة الحق لا بد أن يكلل بعناية الرحمان، فصنعوا المنجزات بمعجزات الايمان. رحمة الله عليه، كان يرى أن هذه البلاد أمانة ودَينٌ في رقابهم من أجل الأجيال اللاحقة فبلغ الأمانة والرسالة رحمة الله عليه.
كان من المؤيدين لجمعية علماء المسلمين حيث زاره عبد الحميد ابن باديس بمسقط رأسه بالبيض، وبارك هذه المسيرة، من أجل الحفاظ على اللغة العربية والقومية الجزائرية واللسان المبين، فكان فصيحاّ ينطق الضاد قشيبا، أديباّ بليغا.
4ـ معاناته وتعذيبه.
إن سبيل الدعوة مكلل بالدم والعذاب والقسوة والألم. اختارا أن يكون من المسبلين لله فنصح وجاهد وكافح واصطبر، فقمعه المستدمر بوحشية وعنجهية فأذاقوه ويلات العذاب وسجنوه عدة مرات بعد أن جلدوه كان أطولها سجنه من سنة 01/05/1957إلى غاية 15/ 08/ 1958، كان يرى أن الدنيا سجن المؤمن والفكر لا تحده الجدران ولا القضبان مؤمن بالله وبالوطن، مجاهداَ مكافحا يسأل الله أن ينعم على أمته بنعيم الحرية والاستقلال. وأن يلفظ أنفاسه من أجل الدعوة المباركة. وأن ينصر المسلمين ويوحد كلمتهم وصفوفهم.
5 ـ وفاته ,أثاره بالمنطقة.
من الفواجع موت العلماء وأصحاب الفكر وأهل الدعوة إلى الله، بعد فترات التعذيب المتعبة التي قضاها بين السجون الفرنسية خرج منها متعب النفس، واهي البدن، يذكر الله ويلهج باسمه، ويردد الذكر ويحمد الله على نعمة المنع والفقد ونعمة الإيمان ونعمة الاستقلال يرتل سورة يوسف مطولا، ينظر إلى السماء ويحمد الله أن جعل حياته في سبيل الدعوة والكفاح والجهاد، وبلى جسمه في محبة الله والحث والموعظة والنصح.
في فاتح ماي من عام 1966، يوم عاشوراء 1386هـ استيقظت ولاية البيض على نبأ رحيل الإمام العارف بالله الحاج تاج الدين عبد القادر، إنه الرحيل المريع بعد أن عانى من المرض بسبب التعذيب في السجن، الكل يبكيه يفتقده ويذكر مناقبه، العالم المربي والإمام المجاهد، صاحب الخلق والمحدث البشوش المتواضع، بكت البيّض رجالاتها وحزنت الأرض لفقدهم والسماء. عمَّ الحزن المنطقة قاطبة في مُصابها وتوافد أفواج الناس إلى التعزية والمواساة.
ألسنة الخلق أقلام الحق والناس شهداء الله في أرضه. الكل يشهد له بالاحتساب والكل يحتسب دموعه لله. رحمه الله واسكنه فسيح جناته.
6-وصاياه رحمة الله عليه.
إن وصية العلماء ليست في مال أو دينار أو درهم، أوصى بالطريق إلى الله والتآخي والتسامح، ونبذ الفرقة والتشتت ، وتوحيد كلمة الله والوطن ، أوصى ببذل النفيس من أجله وتقديس العلماء وأولي الأمر واتباع سنة نبيه، العلم، والعلم ملاذ الله في أرضه. والدين والدين وعرى الاسلام.
أوصى بالحفاظ على هذا الوطن وأن لايفرطوا فيه وأن يجاهدوا من أجله ويكافحوا في اكمال الطريق الصعب الذي أثمر بأيديهم الشريفة.
أوصى بالمستضعفين والمساكين خيرا، بمد يد المساعدة للمحتاجين حتى يفتح الله طريقهم بالخير.
أوصى بتعظيم الذين حملوا السلاح ونفروا من أجل الله والوطن خيرا. وأوصى باللغة العربية والعلم خيرا.
رحمة الله عليه عاش حميداّ ومات فقيدا. الكل يتأسى ويبكي، ويتناول سيرته في المجالس ويحكي عنه بالتقى والورع والزهد. كان ذخرا للبلاد والعباد، نفع به الله في حياته ونفع به بعد مماته في إرث من العلم عظيم ورثه عنهم طلبته ومريديه ليواصلوا تعليم الناس ما ينفعهم في الحياة وبعد الممات.
7ـ تخليده وتثمين ذكراه.
لم تنسى المنطقة رجلاً مثله شهامة وعزا، وبسالة وخلودا وفرادة ومكانة رحمة الله عليه لمثله يكون الفقد ولمثله يكون التأسي، فبما أنه رجل علم وأخلاق، جاءت القرارات الصائبة من مُسيري ولاية البيّض ومُحبيه، لتسمية مؤسسة تربوية تحمل اسمه تخليدا وعرفنا بالجميل، انها متوسطة الإمام المربي الحاج عبد القادر تاج الدّين، إكراماً لمسيرته الطيبة ونضاله من أجل العلم ومواصلة مسيرته والامتثال لوصاياه رحمه الله وأعلى ذكره ومقامه.
المجد والخلود لشهدائنا الأبرار ودامت الجزائر آمنة مطمئنة.