كان "سي بوشريط" على اتصال بالحركة الوطنية في مغنية، حيث تقاعد، برتبة رقيب أول، ربيع سنة 1956. وفي خريف نفس السنة فضل العمل في منطقته، فاتصل بزميله المتقاعد أو المسرح هو الآخر، نور البشير، واتصل بمناضليْن يعرفان نضاله، حاجي حمزة وبالعربي محمد بن الشيخ (سي الباهي)، وهما شرطيان. كثف زياراته لمعارفة بالجهة، ذات يوم أخبراه أن الدرك يلاحقه ويسأل عن تحركاته. وهو الأعزب، يعيش مع أخيه ببادية بوعلام، ويقيم بالمنزل العائلي بالقرابة المعروف بـ «حوْش الرحامنة". وقبل أن يُلزمه قائد الدرك بالتوقيع على محضر عشية كل يوم، سأله بتهكم استفزازي: "ألم تلتحق بالفلاقة بعدُ؟"
وعندما تأكد أن الملاحقات ستطاله حتما، اتصل بصاحب سيارة أجرة، طلب منه إيصاله للبادية، حمل أمتعته، واتجه جنوبا نحو العين الجديدة (32كلم عن البيض في اتجاه بوعلام). ولم يوصله السائق إلى خيمة أخيه عبد القادر، (المعروف لاحقا بعبدالغني)، إلا تحت تهديد المسدس. عبد القادر الذي كلف من يوصله للغاسول ثم للجبل الحيْمر.
وصوله إلى مركز الجبل الحيْمر، بزي عسكري، متمنطقا بمسدس، صادف إنذارا خاطئا بوصول جيش العدو. وعند رؤيته للفوضى التي أحدثها الإنذار، تصدى تلقائيا ليرتب عملية الدفاع، وحماية المركز بجنوده وجرحاه، ومنهم المرحوم بوزيد دحمان. وصلت بعدها طلائع كتيبة بقيادة مولاي إبراهيم، أخبره دحمان (وهو حديث الإصابة من معركة الشوابية، ومن أوائل الثوار، مع بوشريط ورفاقه)، بأن الوافد الجديد خبير في الشؤون العسكرية، تحاور معه، وطلب منه العودة للعمل بالبيّض في المنظمة المدنية. رفض رفضا قاطعا:" إن لم يكن لي مكان هنا، فأطلب الرجوع إلى تلمسان، حيث هناك صديقي شيب الطيب، (الرائد المجدوب لا حقا)". عندها تدخل نور البشير، وقُبل جنديا.
بعد 13 يوما من تجنيده كلف بقيادة فوج للقيام بعملية داخل مدينة البيض، من بين رفاقه الشهيد يوسفي محمد، ربحي بوبكر المدعو حنة. تسللوا، وقضوا على الحراس الستة لـ «دار الصوف"، (بحي السعادة حاليا)، وخرجوا، لاحقتهم دبابة حتى جبل بودرقة. أعجب رفاقه بمناوراته للدبابة، وكيف راوغها، طلبوا من مولاي إبراهيم أن يرافقوه في كل العمليات، عين قائد كتيبة، وكاتبه بن الشيخ عبد الله (المدعو المدرس). في يناير 1957 انتقل إلى الڨعدة ضمن خمس كتائب يقودها كل من : بوعيزم مختار المدعو الناصر ، الزرزي أحمد، نور البشير ، بوسيف .
أمره مراد بالعودة مع كتيبته لبوعلام، لحماية مركز به جرحى، قطعت الكتيبة المسافة في ليلتين. بعدها التقى مع كتيبة مولاي إبراهيم بجبل غزالة. كان العدو قذ قتل ثلاثة من أعيان ابريزية بشنقهم بالسلك الحديدي، (الشهداء: بوخبزة الحاج الباي، قندة، ميطارفي). كان لا بد من القيام بعملية انتفامية لرد الاعتبار. اختار "سي بوشريط" 28 رجلا، منهم: بركات جلول، النعيمي النعيمي، بخيتي عبد الجبار، مجاد محمد. العجال (ممرض من مستغانم)، الشهيد نواصر محمد، بن عامر بن حمزة، يحلالي الطيب، بومهراز بلقاسم (من شمال قسنطينة، استشهد لاحقا)، سحنون محمد، سيلة محمد (شعنبي)، دحمان بن عيش (شعنبي)الذي أصر على المشاركة طالبا الشهادة، فجرح وتوفي بعد ثلاثة أشهر)، كانت العملية انتحارية بكل المقاييس كونها تنفذ في الصباح وداخل القرية، وانعدام الملاذ الآمن. تم التخطيط لها بناء على المعلومات التي وصلت من المنظمة المدنية: كان سكان حي "خلاّف"، البعيد بكيلومترين عن "القصر" مسخرون، ككل الكهول، لبناء الثكنة، وإن تخلف أحدهم عن العمل يذهب الضابط لإحضاره أو التنكيل بأهله إن تبيّن أنه التحق بالفلاقة)، (انظرواشهادة المجاهد بونوه العربي).
وطبق السيناريو تم كما توَقعه سي بوشريط، الذي أمر سكان "خلاف" بعدم الذهاب لبناء الثكنة.(ومنهم بونوة العربي)
وكان قد رتب أمام الثكنة فوجا برشاش 24/29 ليمنع خروج الإغاثة. وكما كان منتظرا خرج الملازم "جاري"، على الساعة الثامنة والنصف بشاحنتين وبعض الجنود في اتجاه المتقاعسين لتأديبهم وإحضارهم. وما إن وصلوا إلى حي "خلاف" حتى أبادوهم باستثناء رقيب اندس بعيدا عن الشاحنتين. هو من أصاب دحمان بن عيش وسي بوشريط بكسور في الجهة اليمنى، (الفخذ والساق والذراع). وبيسراه تمكن منه.
ظلا مختبئن حتى الليل، وفي المساء حضر 11 مجاهدا نقلوهم بعيدا، ليُرَحلا إلى المغرب. دامت رحلتهم 17 يوما، كان ضمن المجموعة مكاوي الطاهر، محمود بن زقمان، ويقود القافلة "النمر" كما يُلقب حلوز التاج، ليصلوا مستشفى بوجدة، أعطوا هوية مغربية، توفي صاحبه، مكث بالمستشفى تسعة أشهر، وثلاثة أشهر نقاهة بمنزل جزائري. لحقه مولاي إبراهيم بالمغرب. و في 27/04/1958 جهّز بفيقيق قافلة بأربعة جمال وأربعة بغال، يحملون السلاح والذخيرة، و وصل بعد شهر رفقة 152 جنديا إلى جبل بني سمير وانضم إليهم 37 جنديا بغير سلاح، وزعت الأسلحة على الجنود، ودخلوا التراب الوطني، بعد أن لحق به مولاي إبراهيم. حيث صادفوا تواجدا مكثفا للقوات الفرنسية في عملية تمشيط كبيرة. وقد تمكنوا من الإفلات من حصار التمشيط بعد تواصلهم مع الملازم موسى طراوري رئيس جمهورية مالي)، الذي سهّل مهمتهم.
وزع السلاح على النواحي الثلاث بالتساوي.
كلف بقصف مدينة البيض بالهاون، هذا السلاح لم يكن متوفرا بالمنطقة، كان موجها للمنطقة السادسة (تيارت) قام بالعملية كل من: لغواطي، الحاج عامر، المعني، بالعموري، إبراهمي بلقاسم، بوغمومة بوزيد.
في 30/12/1958، تم تعيين النواحي: كان ضمن قادتها إلى جانب خير الدين، ومحمبوبي الحاج عامر. في هذه الفترة سجلت عمليات كبرى، وبدأ السلاح والذخيرة في تناقص.
كلف في 27/06/1961 بالتوجه للمغرب، حمل بريدا في غاية الأهمية، أعده قائد المنطقة، وحرره الشهيد أوموسى مختار، (رسالة لقائد أركان الجيش هواري بومدين، وأخرى لقائد الولاية الخامسة عثمان، والثالثة لقائد المنطقة الثامنة مولاي عبد الله)، ومن التُرب بلدية بريزينة رافقه اثنان فقط، بلخمار محمد، والمبروك بن علي، اتجهوا جنوب غرب، للابتعاد قدر الإمكان من خط موريس. بعد مسيرة 22 يوما، حوصروا بالعرق، اشتبك مرافقاه معهم، أما هو فقد خبأ الرسائل الثلاث في الرمال، وأحرق أوراق كراس كان معه، أطلقوا عليه النار لمنعه، ولكن رماد الأوراق ذرته الرياح. استشهد رفيقه بلخمار، نقل إلى بشار، أصرعلى أنه جاء للصحراء للعلاج بالرمل. وببشار وجد أحد أعضاء قيادة الناحية، الذي أرغمه التعذيب الهمجي على كشف كل شيء. وقد ضللوه بأن صاحبه أخبر بكل شيء، فاعتقد أنهم قرأوا البريد، فلم يترك مستورا، هذا القائد هو الملازم... الملقب بوشريط لشجاعته...
قضى الأشهرالباقية بسجن القنادسة، ولم يطلق سراحه حتى 24/06/1962، أرادوا مقايضته بالملازم " مانقو" (أسره كومنوس المنطقة). عودته إلى البيّض صاحبتها مرارة. فقد أشيع أنه سلم العدو الوثائق. أنكر أن يكون هو مصدر معلومات العدو، وأصرعلى طلبه من العقيد عثمان أن يسهل إيصاله للمكان الذي خبأ فيه الوثائق. ومن البيّض رافقه ثلاثة جنود وبوثيقة الأمر بمهمة، زُوّدوا بدليل أوصلهم من بشار إلى آدرار ثم زاوية الدباغ. ومنها قادهم على ظهور الجمال مسيرة ستة أيام.
وعندما تعرف على المكان قال لرفاقه: "إن وجدت الوثائق سأعود معكم، وإن لم أجدها، فآمركم أن تتركوني في هذا العرق لأموت عطشا". يقول إن فرحته و هو يُخرج الوثائق بجرابها من الرمل، فاقت فرحة عيد النصر.
حسرة سي بوشريط، بعد الاستقلال، لم تكن لأنه لم يجد عملا يليق بملازم أول في جيش التحرير؛ بل من هذه الرتب العسكرية التي ظهرت على أكتاف ضباط ظهروا في الثمانينيا والتسعينيات، أكثرهم لم يلطلق رصاصة واحدة صوب العدو، لم يواجهوا جيش فرنسا قط. ولم " يتمسألوا" على أحد
سي بوشريط من مواليد سنة 1920 ببلدية سيدي اعمر، متقاعد يعيش بمدينة البيض بشقة مستأجرة من ثلاث غرف. جازاه الله والشهداء خير جزاء.
من صفحة الأستاذ عشراتي عبد القادر
من صفحة الأستاذ عشراتي عبد القادر